26 يونيو 2008

صور منسية/ من مجموعة قبلة خرساء

الأجواء المكفهرة تناسب مزاجي المتوجس. أكثر من ثلاث ساعات والسماء تمطر، أتحول إلى طفل انفعالي، أنا كائن الماء، سأﻧﻬي آخر رشفة من قهوتي، وأغادر..

لعنة الله عليه وعلى مواعيده، يلقي على أسماعنا محاضرات بالأصول واللياقة، ثم وبكل وقاحة، يتأخر!. أشتمه علانية. ذلك لم يجدِ طبعًا، فها أنا بانتظاره منذ نصف ساعة، وهذا يكفيني.

أزحت الكرسي إلى الوراء مستديرًا بعض الشيء، هممت بالنهوض، لكن نظرةً خاطفةً نحوها أعادتني مسترخيًا، تعودت أن أبرر المصادفات، وأن أصدقها..

قبل عشرِ سنوات كان يومًا مبللا آخر يشبه هذا، كنت في طريقي لقطع علاقتي ببثينة، وقعتُ، انكسرت ساقي، حين أطل وجهها في المشفى من خلال طاقة زهور تحملها، طلبتُ يدها، وصارت زوجتي..

التفاتتي الآن من النوع نفسه.. لمحتها، كانت توزع نظراﺗﻬا على من حولها، عيناها تتقنان الابتسام وحدهما دون أن تتدَّخل شفتاها، مشرقة كشمس ساطعة.

لا أعد نفسي رجلا ملتزمًا بالمعنى الأخلاقي للكلمة؛ فأنا أدخن بشراهة، أشربُ الكحول مرتين في الأسبوع، ونادرًا ما أضرب زوجتي، أما المعاكسة.. فلا.

ليس من عاداتي ملاحقة النساء ولا مغازلتهن.. نادرًا ما اكترثت بامرأة، نوعٌ من اللامبالاة لا علاقة له بالتعفف، فالنساء، بي أو من دوني، سحر القلب والنظر.. حدث ذلك بطريقة حاسمة وغير مخططة.

بعد همود فورة الشباب، ومعها كل توابعها من الحماقات، ما عادت النساء قضيتي الشاغلة.

بلادٌة.. أو تخمة الشبع.. أو ربما حظ السيدة حرَمِنا!.

مع ذلك، ها أنا أحدق بامرأة ليست ملفتة، لكنها فاتنة على نحو ما، بملامح تتطابق مع ملامح حواء الأولى، فالشبه واضحٌ، في خيالي على الأقل، لطف متماثل، الدهشُة والتعلق.

تتحرك تلك السيدة بحيوية واضحة، غير أن شحوبًا لم أخطئه يعتريها، أظنها مريضة، أنحل مما كانت، وقوية كما المعتاد، تبدو في حوالي الأربعين من عمرها. لست دقيًقا، ربما أصغر أو أكبر بعشر سنوات. اكتشافُ عمر المرأة أصعب من حساب نسبة الأرباح في مؤسسة حكومية، فالاحتمالات تخطئ غالبًا.

موقعها على المائدة يجعلها تُحكم السيطرة على من حولها، تنصتُ للصبي اليافع الذي يجلس إلى يمينها، تؤثره بالاهتمام أكثرَ مما تفعل مع البنات الثلاث الأصغر..

توزع طبق السلطة فيما بينهم، تملأ كؤوسهم بالمشروبات، فلا تترك فرصة لتدخل النادل.

لم تكن تحب خدمة الآخرين لها، حتى حين تمرض ..ابتسامتها تفيض من زاويتي فمها، تغمرني، تتلفت بحماسة، لا يفوﺗﻬا أن تناول الخبز للصغيرة بجانبها، تصب الحساء، وتحاول جذب ابنها من ملله وشروده.

سرت عدوى نشاطها إلي، شعرت بخفة طارئة، ارتياحٍ أزال توجسي وغضبي من صديقي المتأخر..

ربَّ تأخر نافع!.. فليتأخر حتى يومِ القيامة، وليتركني حيث أنا. مأخوذ ﺑﻬا حتى أني لم أعبأ بثوب مراهقة انحسر أمام عيني، كاشًفا عن ساقين أبلجين وبياض شاهق. سيخيب رجاء الصغيرة التي تمتحن غوايتها،

فذهني متورط بكامله في متابعة ما يحدث على الطاولة المقابلة، ثم أني على ثقة بأني لو حملقت بسيقاﻧﻬا لتأففت مدعية أني رجل عديم الذوق، وأن حماقتي لا تناسبها، النساء غامضات، لا ينطبق عليهن قانون ثابت، هن الشيء ونقيضه في آن، يقف الربُ نفسه عاجزًا عن فهمهن، أما أنا فقد تبت عن المحاولة و ما

عدت أكترث.

تعودتْ بثينة زوجتي قلة اكتراثي، وعلى هذا رتبت أمورها، استغرق الأمر منها بعض العناء، بلطف مرة وبالبكاء مرة أخرى. كانت محاولاﺗﻬا المهادنة تستفزني، أرى فيها مكرًا و مزايدًة على طاقة احتمالي.

أمي بدورها كانت لطيفة، دماثتها لم تشفع لها بما يكفي كي أترك أشغالي، وأمسك يدها الضعيفة، لا أثناء مرضها ولا يوم ماتت..

ورَّثتْ بناﺗﻬا الثلاث الأصغر مني قطعة أرض تملكها، ومترل العائلة القديم.. أما أنا، وحيدها الحبيب، فقد خصتني بخاتم جدﺗﻬا العتيق، إضافة إلى رسالة مكتوبة توصيني خيرًا بأخواتي.

آلمتني خديعتها، لطالما ظننتُ أني طفلها المدلل، فرغم ظروفنا المادية العادية، أرسلتني لأكمل تعليمي في فرنسا.

فاجأتني الوصية، لكني احتفظت برأيي لنفسي، مبديًا، ظاهرًا فقط، أن الأمر سيان بالنسبة لي، مادامت أموري المادية معقولة، أما ضمنيًا فلم أغفر لها استثنائي من أملاكها، متفضلة عليّ بحجر ملون.!

ربما كان تصرفها طبيعيًا، أو أني لا أفهم النساء!. في الحالين، لقد خدعتني.

الصبي كسر كأس الماء بحركة طائشة، وقبل أن يبكي بدأت تراضيه.. وشاحها القديم يغطي شعرها، ويلتف حول عنقها، ليس حجابًا بل احتشامًا يمنحها الهيبة. لم تكن تأبه للخصلات التي تنزلق، كل ما كانت تفعله أﻧﻬا تلملمه بحركة خاطفة من أصابعها الطويلة..

يبرق في وجهي عقيق خاتمها يزين بنصرها النحيل، يجفلني صوت النادل:

- هل تطلب شيًئا آخر يا أستاذ؟

شعرتُ بالحرج، فقد التقطني بالجرم المشهود. طلبت المزيد من القهوة، وأشحت بوجهي نحو النافذة، التصقت ﺑﻬا، حتى ارتطم أنفي بالزجاج، أنفاسي الساخنة حجبت المشهد الخارجي، البرد في الخارج شديد، والمطر طوفان نوح، وصديقي لم يصل بعد.

إﻧﻬا الأيام الأخيرة من العام.. تعاقبت السنون، ويمضي العمر فوق زلاجة بعجلات.

الإفلات من مغناطيس تلك المرأة صار مستحيلا، كهاجس مّلح عدت أراقبها.لعلها انتبهت!.

التقت نظراتنا.. لمحت دهشتها.. ذهول ألجمها..انطفأت ابتسامتها..عبست.. هاجمتني خيالاتٌ متداخلة لامرأة بعيدة الملامح، يرقد عالمي بين كفيها.

كانت لها رائحة أمي حين كانت تلمني في حضنها أيام البرد، فأدس أنفي بين ﻧﻬديها حتى تكف أسناني عن الاصطكاك..

وكانت لعمتي التي تتمادى في تدليلي، فأشتط، وأتشيطن؛ أنط فوق وسائدها البيضاء وشراشفها النظيفة.. فلا تعنفني، بل تتخم معدتي بحلويات تفوح منها رائحة " الفانيلا"..

كانت للصبية الفاتنة التي قرصت قلبي، وعدتني بأﻧﻬا لن تكون إلا لي. حين رأيتها بعد ذلك بكثير كانت تجر خلفها قطيعًا من الصغار.

كانت لأختي الكبرى التي لم أزرها منذ شهرين، ومازالت تتصل بإلحاح لتسأل عني، وتستحث همتي:

"بعرف أنك مشغول بس تقبرني طلْ"...

كانت لتلك السيدة التي جرتني إلى فراشها مباشرة، أتذكر تفاصيل جسدها اللدن وشهقاﺗﻬا، أما اسمها فقد بلعه النسيان...

كانت.. كانت الحبيبة الساحرة التي تخيلتها، ولم أعثر عليها سوى في فيلم سينمائي حضرته سبع مرات، لم تكن بطلة الفيلم بل مجرد ممثلة ثانوية تظهر في مشهد خاطف يستغرق عشر دقائق ثم تغيب بعدها..

وكانت لبثينة.. زوجتي تلك التي أتجاهل مكالمتها، وكلما اتصلت سجل هاتفي النقال رقمها على أﻧﻬا اتصال وارد لم يُرد عليه.

داهمتني وجوههن المنسية خارج القلب بسرعة خاطفة.

حين نظرت إليها ثانية، وجدﺗﻬا تحدق بي، كأﻧﻬا تعرفني.أطرقت خجلاً متظاهرًا باحتساء قهوتي الباردة..

عقيق خاتمها ميراثي الذي أضعته.

قررت أن أسألها عن خاتمها.. لكني ترددت.. بل خفت.. أين اختفى الشاب الجريء الذي كنته؟.

لم تكن الفكرة تكمل دورﺗﻬا عبر الحواس حتى تصبح قابلة للتنفيذ.. يقيدني اليوم ألف حساب وحساب..

من يعرف، ربما اﺗﻬمتني بالتحرش قبل أن تسمع سؤالي.

***

من الخلف جاءني صوته يقول إن عطلاً طارًئا في سيارته الجديدة أخره، إن انتظاري لساعة كاملة يدهشه.

لم أشتمه.. أشرت له أن يجلس،كانت ما تزال تتطلع إليّ، وقد تباطأت سرعة حركتها..

يبدو أﻧﻬا عرفتني: حوائي الأولى.

تطلع مستغربًا:

- إلام تبحلق؟.

- إليها..

- من؟.

- تلك السيدة التي هناك.

- أين؟.

أومأت برأسي:

- هناااااااك.

- أعوذ بالله منك ومن ﺗﻬيؤاتك .. ما في حدا!.