23 فبراير 2017

صوت يصعد شجر الحكاية/ محمد العشري

محمدالعشري/القاهرة:«أحب أن أحَلِّق، مثلي مثل باقي خلق الله، لكن كلما ارتفعت شبراً خذلني الجناح، وأرعبتني النشرة الجوية التي تتلوها أمي على مسامعي».
هكذا، تتشكل أحلام النحيلة التي تحبها القاصة السورية سوزان خواتمي في مجموعتها القصصية الجديدة «قبلة خرساء»، الصادرة حديثاً في سورية، لدى «دار قدمس» للنشر والتوزيع.‏
ربما جاءت تلك المجموعة لتكسر النظرة السائدة التي ترى في الكثير من المجموعات القصصية والروايات الحالية أنها أصبحت أكثر التصاقاً بذات الكاتب، وصدى للفرد، ولم تعد تعبر عن الهم العام الجماعي، وما يعانيه الناس في المجتمعات العربية، وهي نظرة صحيحة إلى حد كبير، إذا ما تمعّنا ورصدنا حال الإبداع في السنوات الأخيرة. لكن، لا زال هناك العديد من المبدعين، الذين ينطلقون من ذواتهم الخاصة، ويشتبكون مع الواقع، والحياة المعيشة لتقديم صورة حية للذات المبدعة في داخل ذلك الإطار العام الواسع، وقد نجحت القاصة سوزان خواتمي في مجموعتها تلك في تقديم ذلك العالم إلى القارئ، من زاويتها وتجربتها الخاصة، وبدت في الكثير من القصص كأنها تحمل عدسة مكبرة، تضخم بها الأشياء الصغيرة، التي تنمو في داخلها، والتي تقابلها في طريقها، والتي تحيط بها، وتتفاعل معها، بالسالب أحياناً، وبالموجب في أماكن أخرى، ولم تركن إلى الرؤية الأحادية في كتابة قصصها، لأنها تترك الأصوات تتحرك وتصعد شجرة الحكاية، قبل أن تغلق عليها الباب، كما في قصة «ثلاثة ألوان لحكاية بلهاء»، والتي تترك فيها التأويلات والتفسيرات تأخذ مجراها الطبيعي، دون أن تضع حاجزاً أمام السرد، أو أمام القارئ وتصادر رؤيته، منهجها أن كل التفسيرات متاحة، ومباحة للجميع: «الإشاعات التي أُطلقت حولها كثيرة ومتشابكة، أما الحقيقة فهي تحصيل حاصل. لم يتمكن أحد من أهل الحي، كما أكدت أمي، أن ينتزع الحقيقة من فمها مباشرة». وتأتي تلك الأصوات في عناوين فرعية ثلاث، توضح مدى التباين بين هذا وذاك، وهي: «حكاية زرقاء مثل دغدغة رومانسية تقول»، «حكاية حمراء مثل إشاعة فاجرة تقول»، و»حكاية سوداء مثل حادثة واقعية تقول».‏
وفي «خرائط الغياب» ترسم صورة صارخة للوضع المأساوي في العراق، من خطف ونسف واغتصاب وجاسوسية، تلك الأعمال الجنونية التي خربت وأودت بأحلام وحياة الكثيرين دون مبرر سوى الاستسلام التام: «الطرقات عام تستدير وتخادع إسفلتها، تبحث عنك لتترك فوقها أثراً». تلك الطرق وغواية الأماكن تمتد في قصص المجموعة، وتظهر في «ظلال حافية»، ورائحة «أصابع بطاطا تحترق» حيث تفوح الغيرة وتفتك بالعشاق، تحول مشاعرهم الناعمة إلى أنصال سكاكين حادة، تقتل وتمزق ثوب الحب: «يجرها من شعرها.. يدفعها بقسوة.. يحط فوقها.. تطبق عينيها.. تستعد للألم.. يلقى رأسه فوق صدرها يجهش بالبكاء»، وهي صورة صادقة، مؤثرة، تربك القارئ وتريحه في آن، لأن تلك الغيرة لا تستند إلى براهين وأدلة ظاهرة تبيّن خيانة الحبيبة، بقدر ما تعتمد على صورة ذهنية تتضخم في رأس الحبيب.‏
وفي «الحب أو.. لا شيء عنه» تكتب سوزان خواتمي قصة في منتهى الرهافة عن ذات مبدعة، تكتب القصص القصيرة: «هل أنا الذي أكتب الكتب، أم هي التي تكتبني؟»، هكذا يختلط الواقع بالخيال، في داخل ذات طفلة، تتألم من استنفار الأم، وحال الخال، وغضب الأب، وغرابة الضيف. تلك الذات التي تكبر في ظل الحكايات، تسمعها وتراها وتعيد تشكيلها من جديد بعد أن تكون قد انفلتت ومضت في عمرها سنوات. وفي «رقصة الفالس الوردية»، و»مواء» ترصد التجربة الثانية لزواج الرجل، وما يعتريه من تغيرات شديدة التباين، ما بين التردد والخجل في القصة الأولى: «ترتعش يدك، وتدغدغ جوانبك تلك الرغبة»، والجرأة والصلافة والاحتكام إلى «شرع الله» في تبرير غايته في القصة الثانية: «إنه شرع الله.. وأنا رجل عادل».‏
تسعى سوزان خواتمي إلى لمس الحكايات من داخل التجربة، ومن منطلق خبرة ذاتية، وليس اعتماداً على رأى الآخرين، كما في القصة التي تحمل عنوان المجموعة «قبلة خرساء»: «أكدت لي صديقتي أن القبلات شيء ممتع للغاية»، وتظل الذات الساردة في داخل الحكاية تحلم بالتجربة، وتسعى للعلاقة مع رجل، أي رجل يقابلها في الطريق وتستوقفه للسؤال عن أي شيء، لكنها تفشل في أن تجذب الرجال إليها، وتستلم في النهاية إلى صاحب العمل، الذي تعمل لديه، لتكتشف أن ما أخبرتها به الصديقة شيء مغاير تماماً لما تحسه: «في الحقيقة لم أتوقع أن تتعدى علاقتي معه الحدود الطبيعية، بين صاحب محل وموظفه عنده، لكنه عندما أقفل الباب، عرفت أن صديقتي تكذب، وأن القبلات لا تطاق».‏

يستطيع القارئ أن يلمس وعى الكاتبة ورهافتها، وهي تنفذ في جلد الحكايات التي تتصدى لكتابتها، وتتعمق في داخلها، كما في «العتبات المحظورة»، امرأة لا تبكي»، «صور منسية»، واصمتي يا زهرة.. أكاد أسمعك»، لتصل في نهاية المجموعة إلى قصة «كان اسمها سعاد»، والتي عبرت من خلالها عن أزمة العديد من شخصياتها: «الفتاة التي أحببتها، وتلك التي أحبتني، أدركت أن الحب ترف عاطفي لا يناسبني». ذلك الترف تصعد في تفاصيله وأوراقه الوارفة القاصة سوزان خواتمي، لتورط القارئ في سطورها، وشبكة صيدها، فهل وجب عليه الاحتراس مثل سمكة، أم أن يُلقي بذاته في غوايتها؟! ذلك سؤال لا تجيب عنه إلا القراءة والإصغاء إلى قبلتها الخرساء.‏

ليست هناك تعليقات: