22 فبراير 2017

حديقةٌ بحجم حماقةٍ


[الحنينُ ندبةٌ في القلبِ، و بصمةُ بلدٍ على جسدٍ. لكن لا أحدَ يحنُ إلى جُرحِه، لا أحدَ يحِنُ إلى وجعٍ أو كابوسٍ، بل يحنُ إلى ما قبلِه، إلى زمانٍ لا ألمَ فيه سوى ألمِ الملذاتِ الأولى التي تذوّبُ الوقتَ كقطعةِ سكرٍ في فنجانِ شاي]
محمود درويش

المسافةُ سفاح المحبين.
مضت أوقاتُنا الـ قوسَ قزحٍ، ومساءاتُ العشقِ الطويلةِ، وضحكاتُنا المعلقةُ في نقطةٍ ما بين الأرضِ والسماءِ.
فكأننا ما كنا، وكأنه ما كان..
قلتُ لكَ: ماكنتَ عابراً لتمضي بمحبتِك!
الطرقُ خوّانة
الحياةُ لاسعةٌ
الهواء ثقيلٌ
والحب ضئيلٌ.. ضئيلٌ
افترقنا.. نحمِلُ على كاهلينا تعبَ حبٍ لم يبلغْ أشُدَّه.
لم تكنْ حبّيَ الأولَ كما تدّعي النساءُ، كنتَ الذي أردتُه أخيراً.. أكيداً.
نفضتَ من يدي يدَكَ..
وها نحن عراةٌ من وعدِ الخلود
ها نحن حفاةٌ نتلمسُ الخَطو في الغياب
طبطبت أمي على لهفتي، وقالت: انسيه.
أسمعُ النصيحةَ..  أكبسُ المَلحَ والجُرحَ.
أرملةٌ أرتبُ أماسّي الانتظار؛ حين لا يرنُ هاتفي.. حين لا يسجلُ اسمُك حضوراً.
يقتلني المَلحُ والجُرحُ والوقتُ والعجزُ وليلٌ لا ينامْ.
ألملمُ ما بقيَ منا، أحوله إلى حديقةٍ صغيرةٍ بحجمِ حماقةٍ أرتجيها. أسيجُها كي تعود ذاتَ مطرٍ.
قلتَ لي: جففي قلبَكِ وانثريه خُبزاً للعاشقين.
كلما بالغتُ في النسيانِ تذكرتُك.
أعدُ على الأصابعِ موتي
يترددُ في الصدى لعنةُ اسمِك
أتوجعُ. كل الموتى يتوجعون ليس لأنهم ماتوا، بل لأن النسيانَ طواهم.
طبطبت أمي على ألمي وقالتْ: انسيه.
ينفرطُ قلبي حبةً حبةً
أخرجُ من صورتِنا معاً.. تبقى أنتَ.. ذراعُك تطوي الفراغَ، فمُك يلثمُ الفراغَ، حضنُك يلّمُ الفراغَ
وأنا الفراغُ هائلاً.
قلتَ لي: الأشياءُ التي تحدثُ متأخرةً لا يعني أنها لن تحدثَ على الاطلاق.
كحفنةِ رملٍ، كثمرةٍ تتعفنُ، كرداءٍ متسخٍ
وحيدةٌ على مقعدِ الوحدة، أتجولُ في خرائبَ الذاكرة، أتعقبُ شاماتِ وجهَك، ابتسامتَك ترتب طقسي، عناقَنا في محطة المترو، شغفَك بركبتيّ.
لا شيءَ أفعلُهُ
أنظرُ بريبةٍ إلى كلِ رصيفٍ، وكلِ حانوتٍ، وكلِ شجرةٍ، وكلِ ظل، وكلِ يُتمٍ، وكلِ بكاءٍ لستُ فيه.
يا لحسرةِ الأمكنة..!
سأتجنبُكَ كي لا أراكَ، ولكني أراك
سأغلقُ عينيّ كي لا أراكَ، ولكني أراك
سأنامُ ما تبقى لي من عُمرٍ كي لا أراكَ، ولكني أراك
ترتبُ وداعاً جميلاً، تحملُ حقائبَ غيابَك، تحجزُ لسفرِك البعيدِ..
ما عُدت تقبلُني
ما عُدت تقولُ: أحملُك معي.
تصرخُ أمي، هلعةً: انسيه.

يا ربَ النسيانِ هاتِه.. أعرني جناحي فراشةٍ ... أو إنزع من قلبي كلّ هذا الحنين.

نص نشر في مجموعة (امنحني 9 كلمات) 

ليست هناك تعليقات: