28 فبراير 2017

قبلة " سوزان" الخرساء تنطبع على خدّ الأدب: بقلم الشاعر والكاتب السوري تميم صائب



من صفحتها الاولى، في إهدائها البسيط –المكثّف- تتبدّى لك، أنها أديبة من الطراز الرفيع، فهي أولاً وفيّةٌ لأدبها ولمن أخذ بيدها في سعيها الحثيث لاكتشاف عوالمه، وهي تعرف- ثانياً – وقع الكلمات على قارئها فتتخيّر له بسلاسةٍ مايفجّر فيه اتساعاً في إدراك المعنى، فحين أضافت كلمة واحدة" " بالطبع" إلى سطرها الأول في الإهداء فتحت أمامك باب مشاعرك في محبّة ما ستجد بعد حين:
(إليه بالطبع .. محمد خالد قطمة.. أستاذي)
ولأنني لست من المؤيدين لتشريح الإبداعات الأدبية جزءاً جزءاً، ولأنني أتعامل معه على أنه أنثى مليئةٌ بالفتنة، لا كطبيبٍ جراح يفقد معنى الإحساس بالجمال الكليّ أمام جزئيات الجسد، فإنني أربأ بنفسي أن أفصفصه بحثاً عن مواطن خللٍ أو جمال، لذا فإنني أرى في قصص " سوزان خواتمي" في مجموعتها الأخيرة " قبلة خرساء. صوت يصعد شجر الحكاية" لوحةً أدبيةً مفعمةً بالألوان المتناغمة، والصور المدهشة، والخيال المنفتح، والمعنى الذي – وإن بدا عصِيّاً أولاً – إلا أنه يتوضّح عند السطر الأخير في كل واحدة من قصصها لتقف فرحاً باكتشافك مقدرتكَ على التقاط المعنى والجمال المخبّأ في أزرار براعمه.
ويثير فيّ العجب أكثر، تمكنها من اختيار عناوينها بدقةٍ تُغبط عليها، يفتقر إليها الكثيرون ممن يكتبون هذا اللون الأدبي، فهي تختزل قصتها بعنوانها المكثف إلى جانب عناوينها الفرعية المليئة بالإيقاع والروعة : (أقلب أوراقهم مثل شمسً تتلصّص- ظلال حافية- أصابع بطاطا تحترق- من رحمها أنساب إليها..)
وأحسُّك معي حين ترى الشعرية في اختيارها لمفردات عناوينها، ثم حين تدخل محراب النص فتدرك أنّها ماتخّلت عن هذه اللغة ولا جعلت الفكرة والمعنى تأخذانها إلى السرد الفجّ أو تجبرانها على الانحياز إلى لغة فيها من الواقعية والسردية مايجعلها تبدو فجّة غير مستساغة.
وإنك في مرات كثيرةٍ تعوِل ولاتكفّ عن العويل، لأن " سوزان" استطاعت أن تكتبك كما أنت، وأن تفضح فيك سِرّ حياتك، فوجدته أمامك على الورق كما لو أنك واقفٌ أمام مرآة.
وإن كانت القاصة " أحلام مستغانمي" قد حلقت عبر انزياحاتها اللغوية المتميزة وتراكيبها المذهلة في سماء الأدب، ورفعت اسمها واسم بلدها عالياً عبر مقدرتها على المزج بين الخاص والعام، والذات والآخر، فتهافت القراء على قراءتها من كل حدب وصوب، فإن " سوزان" فعلت ذلك بكل بساطة وعفوية، واستطاعت أن تطيّر طائرها الخاص بها فلايختلط- لفرادته- ببقية الطيور، بل يظل يستهوي عيون الناظرين إلى جناحيه المرفرفين وريشه الملوّن،مطوّعةً في ذلك كلّه المعنى العميق الذي تسعى إليه عبر نظرة للحياة مفعمة بالفلسفة والحكمة جوار البساطة:
(مشكلة فظيعة أن تكون على حقٍ دائماً، وأن تجعل الآخرين مجّرد مخطئين يُطأطئون أمامك بذنوبهم الصغيرة) ، ( ياربّ العدالةّ ! الماء سلسبيل فمن أين يأتي العطش؟) ، ( أي فائدة ترجى من وردة حمراء أمام ورطة الفقد؟!)
فهي لاتتقصد دسّ الحكمة في متن النص، بل هي تأتي كلازمة لابد منها دون أن تشعرك بإقحامها – أستذةً عليك- بغية إدهاشك بسعة معرفتها، فالدنّ ينضح بما فيه، وطريقة إيصالها إليك عبر استفهامات تعجبية ستجبرك على الوقوف عندها والتمّعن في مدلولها لتتوصل إلى ماتريده الكاتبة منها، وهكذا فإن الفكرة تنساح إليك جليلة لأن الكلمات التي ساقتها إليك كانت كذلك، فتأمل معي روعة:
( الوقوع في الحب شغلني إلى درجة أني تعوّدت استيقاف أي شاب لأسأله عن الساعة)..!
فـ " سوزان" تبذل بسخاءٍ مشاعرها، فلاتستحي من أن تُفصح عنها دون أن تسفّ في هذا الإفصاح، ودون أن تتجاوز الخط الأحمر الواهي في نقلها إليك، ديدنها في ذلك صدقها في تعاملها مع هذا اللون الذي اختارته أو اختارها.. هي لاتخدعك أبداً لأنها لاتريد خداع نفسها.
وحتى في سيرتها (ككاتبة  ) والتي أنهت بها مجموعتها القصصية، تتبدى لك شاعريتها، فهي ليست سيرةً عادية كما اعتدنا على قراءتها هكذا- بل هي سيرة كاتبة وضّحت حياتها الأدبية بنص أدبي على شكل سيرة، فبدت لنا كأنها قصةٌ أخرى مضافة إلى مجمل قصصها وبالأسلوب الممتع ذاته الذي اتبعته في كتابة تلك القصص.
(سوزان خواتمي) ببساطة إذن، أديبة صعدت غصناً من أغصان شجر الحكاية وغردت عليه لنستمتع بهذا التغريد ونحن نحتسي فنجان الألق في صباحٍ مليءٍ بالروعة وسبحانية الخالق.



ليست هناك تعليقات: