20 أبريل 2008

مالا يدركه سوى الأطباء والمومسات

اكتشفت هذا السر أمس في تمام الساعة الرابعة فجرا, كنت أمسك بقدم مبتورة من كاحلها جراء حادث سير كان قد وصلت ضحاياه للتو. كان ابن صاحبة القدم هو الذي ناولها لي متوسلا بعينيه: أن نعيدها إلى مكانها.وضعت القدم جانبا بلا اهتمام ظاهر: لا مجال لذلك, لقد تأخرتم فالسيدة متوفاة. قل لي ما الذي يؤلمك الآن؟.- أنا لا شيء يؤلمني, إنها أمي يا دكتور ليتني كنت مكانها ولم تصب هي بسوء... الحقيقة كنا نتحدث بهدوء وكأننا نخوض حوارا عقلانيا فلسفيا من الطراز الرفيع. لكن الفرق بيننا, هو أن الشاب كان ما يزال مصدوما, فقد كان خارجا للتو من الحادث المروع, حافي القدمين, ممزق الثياب المترعة بالتراب وشظايا الزجاج. كان سليما لم يصب بسحجة واحدة, لكنه كان مذهولا بشدة تمنعه من الإحساس الحقيقي بهول الفاجعة, وكأنه يعيش حلما.أما أنا فقد كانت حالته الصحية هي الشيء الوحيد الذي يثير اهتمامي: حسنا تعال إلى السرير لأقوم بفحصك والاطمئنان عليك..وقتها نظر إلي مستغربا إلى درجة جعلتني أستغرب أنا نفسي من شدة استغرابه.. فكرت قليلا, واكتشفت السر.الجسد المريض, عزيزي القارئ, لم يعد أكثر من آلة معطوبة بالنسبة لي, أهتم بإصلاحها بينما ألقي بالآلة الأخرى التي لا أمل فيها إلى ملف الوفيات.عندما يراجعني مريض ما, لا أتذكره من ملامحه ولا من اسمه بل من الحالة المرضية التي يعانيها بتعقيداتها.هذا ما عودتني عليه مهنة الجراحة.أشق الجسد بمشرطي البراق بسلاسة وروعة من أسفل القص وحتى أعلى العانة دون أن يرف لي جفن, في نفس الوقت الذي أشارك به أصدقائي الجراحين والمساعدين في حديثهم حول ألوان الزهر وأنواع العطور وآخر صيحات الموضة, فيما يرمي أحدهم بقطعة لحم أو شحم زائدة إلى طشت المهملات.كلا نحن لسنا قساة إلى هذا الحد ولا سفاحين, لكن هذا ما تعودنا عليه.الجلود المسلوخة والأطراف المتهتكة والأمعاء المطلة خارجا عبر طبقات الجلد, لا تعنينا. ما يعنينا حقيقة هو قياس ضغط الدم وعدد نبضات القلب وغيرها من الأرقام التافهة. هكذا تعودنا.المومس أيضا, لا يعنيها طول قامة الزبون ولا لون عينيه ولا تسريحة شعره, ما يعنيها هو الأرقام أيضا بمستواها الدلالي الوحيد: النقود المدفوعة.نحن الأطباء لن نأبه لك عندما يكون نبض قلبك وضغط دمك يساوي الصفر, وكذلك المومس لن تفعل عندما تساوي نقودك الصفر, وهي أيضا لن تتذكر وجهك ولا اسمك ولا رائحتك إن عدت إليها, بل فقط مقدار ما دفعته لها سابقا هذا إن كنت أصلا قد دفعت مبلغا متميزا.أنت لست سوى جسد نتعامل معه رقميا, وهذه هي أدنى وأسخف المراحل التي قد نمر بها جميعا. إنها أقصى حالات العبثية والإحساس بانعدام القيمة الإنسانية, وأكثرها مثارا للسخرية.يسألونك عن الروح!!.. الروح كما أعرفها الآن هي ليست ذلك الشيء الغامض واللامرئي بالنسبة لي , وليست ذلك السر الذي يخرج منك ويصعد إلى السماء السابعة لحظة موتك. إنها ذلك الأثير الذي يستنشقه منك الآخرون في وحدة الزمن بما ينتج عنه من انعكاسات شعورية وعاطفية من هؤلاء نحوك. روحك باختصار هي كيفية إحساسي بك, ومقدار فهمي لك, وما تمثله أنت بالنسبة لي.بدأت أعي هذا في اللحظة التي اضطجع فيها والدي على طاولة العمليات. كنت خائفا جدا ونادما جدا على النصيحة التي أسديتها له بضرورة إجراء العملية. تذكرت لحظتها أن التخدير عمليا هو عبارة عن نصف موت صنعي يجرى للشخص, حيث يتم تثبيط عملية التنفس وتغييب كامل للمدركات العقلية والشعورية, ووضع المريض على أجهزة لا تعطيه سوى الحد الأدنى من الحياة. تذكرت وقتها كل مخاطر التخدير, وأكثر ما سيطر على خيالي هو رقم ضئيل جدا يمثل نسبة حدوث عدم الصحو الأبدي. أحببت والدي كثيرا وقتها, وغفرت له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. أردت أن أبكي, وأن أصرخ, وأن أطرد الجميع من مسرح العمليات, وأن أنهضه وأخرج به حالا, وأن... لولا أن أنقذتني طبيبة التخدير من حالتي, بأن قامت بطردي أنا بالذات من الغرفة, مذكرة إياي بأنه يمنع على الطبيب حضور عملية تخص أحدا يخصه... شكرا لك يا دكتورة زهور.فهمت وقتها لماذا يشاجرنا أحيانا بعض مرافقي المرضى, ولماذا يغضبون منا عندما يفهمون خطأَ انتظارنا لشيء ما على أنه تقاعس, ولماذا يلحّون علينا بإعطاء المسكنات لمريضهم عند أقل تأوه يطلقه. أنا أغدقت على والدي المسكنات ببذخ المترفين أيها الأعزاء حالما بدأ يصحو من المخدر ويشعر بالألم, استعملتها جميعا من الديكلوفيناك وحتى البتيدين (مورفين) في أقل من ساعتين. أتعلمون لماذا؟ لسبب بسيط: أنني لم أكن أتعامل مع جسده وقتها, بل مع روحه, مع أثيره الذي ما انفككت أستنشقه منذ ثمانية وعشرين عاما.في البدايات.. لم أكن أحتمل رؤية ميت, ولم أكن أحتمل الوقوف في مسرح العمليات لأكثر من خمس دقائق, كنت أتقيأ لمجرد انتشار روائح الدم والقيح والبراز من بطن المريض, ما لم أخرج خارجا في الحال.لم أستطع كتابة سطر واحد من الشعر لمدة سنة كاملة وكنت عاجزا عن الحب.أما الآن فقد بدأت بالتشابه مع أغلبية الجراحين: قويت شخصيتي كثيرا, وازدادت بذاءة لساني كثيرا, فيما أصبحت أكثر ميلا لملاطفة النساء وأكثر جرأة في الإقدام عليهن. أصبحت أكثر ولعا بالشعر والنبيذ والورد والشموع... الخ. وكأغلبهم أكثر ميلا للأشياء اللطيفة والرومانسية ربما كتعويض لا واع عن القسوة التي نمتهنها.الأهم من ذلك كله أنني أصبحت أكثر استخفافا بالموت وبقيمة الجسد, حالة الموت أصبحت روتينا حياتيا أعيشه يوميا, والجسد لم يعد أكثر من جلد وعضلات وشرايين وأعصاب .... وأرقام.المومسات مع الوقت يصبحن أيضا أكثر قوة في الشخصية وأسلط لسانا وبنفس الوقت أكثر هشاشة داخلية وأشد رومانسية, لكنهن يبقين ما في الداخل للداخل وما في الخارج للخارج. هن خارج المهنة, كما أعرف, أقل ميلا لملاطفة الرجال وأقل ولعا بالشعر والنبيذ والورد, لأن هذه الأشياء هي الأكثر مصادفة لهن أثناء عملهن بالرغم من كونها سطحية أو زائفة. لكنهن بالمقابل يصبحن أيضا أكثر استخفافا بالموت وأكثر إدراكا للا قيمة الجسد..الأطباء ينحازون أيضا أحيانا لمرضى دون آخرين, إنحيازا عاطفيا وليس دوائيا بالطبع. هنالك مرضى يستطيعون أن يخرجونا من إطار التعامل مع أجسادهم ويقودوننا إلى مناطق تابعة لنفوذ أرواحهم. يحصل هذا لي أحيانا مع بعض الأطفال الصغار ومع المسنين الذين أحس بإهمال ذويهم, ومع بعض المرضى الذين ينشأ بيني وبينهم حوار إنساني وتعارف يتجاوز معرفة شكاوى الجسد إلى مساس أرواحهم, وبصراحة مع بعض الفتيات الساحرات أيضا.لا أدري هنا إذا كان المومسات أيضا ينحزن لبعض الرجال دون آخرين, لكنني أعتقد أنهن أقل إحساسا بذلك لأن رجالهم غالبا من نمط واحد ومن شخصيات متقاربة, قصصهم متشابهة وأكاذيبهم متشابهة, وهم بأية حال ليسو مضطرين للصدق كما هو الحال مع الأطباء, ولذلك يبقى أثير أرواحهم حبيس دواخلهم, بينما ترفع المومس ساقيها وتمارس حرفتها ميكانيكيا, مطلقة خيول أفكارها المجنحة إلى فضاءات لا تمت إلى أرضها بصلة.الطب والبغاء هما المهنتان الأكثر إنسانية في ظاهرهما والأكثر بعدا عنها في جوهرهما. الطب يفرج ألام الجسد العضوية, والجنس يفرج آلامه الليبيدوية. لكن ما تجهله هو أنك لست سوى رقم عابر بين أرقام عابرة, الحقيقة لا أحد يأبه لك, ولا أحد يحسك, وأهم ما في الأمر: لا أحد يحبك.الحب أو اللاحب.. تلك هي المسألة.عندما تضاجع زوجتك التي لا تحبك فأنت لم تضاجعها قط. أما عندما تضاجع هي رجلا آخر على سرير خيالها, فهذه هي المضاجعة الخالصة المخلِصة المخلّصة, وهذه هي الخيانة الحقيقية.سمعت مؤخرا عن مخرج لأفلام البورنو متزوج من واحدة من نجمات ذلك الحقل. هو واحد من القلائل في هذا العالم الذين يؤمنون أن الخيانة ليست خيانة الجسد. إنه يعرف تمام المعرفة أن الجسد هو لا شيء.. لا شيء على الإطلاق. إننا متحابان أنا وزوجتي, يقول المخرج, ووفيان لبعضنا البعض أيضا, يضيف, بالرغم من أنها تضاجع الآخرين يوميا أمام عينيه, فلا يكون منه سوى أن يأمرها برفع صوتها أعلى أو تقبيب مؤخرتها أكثر, إنها لا تقدم لهم سوى جسد محض لا قيمة له, فيما تقدم له هو جسدها على طبق من روح.. هذا ما يؤمن به.وأنت عزيزتي القارئة إذا علمت أن زوجك يضاجع أخرى أو أخريات, فأرجوك أن تبحثي أولا وقبل أية ردة فعل, عن أثير روحه, فإن كان مايزال على فراشك فتأكدي أن جسده عائد إليك لابد سالما غير منقوص, وليس على مساماته منهن غير الهبـــاء.لا أقول هذا لأبرر للرجال خياناتهم, ولا أدعو النساء إلى الاستمرار مع أزواج لا يحببنهم, ولكن لعلمي المتواضع أن الرجال هم الأكثر ميلا لتجريب الأخريات بسبب عيونهم التي كثيرا ما تسقطهم سهوا في شباك الغواية, فيما النساء هن الأكثر ميلا للاستمرار مع أزواج لا يحببنهم على أن يهجرنهم. وهاتان الحالتان في المحصلة لا تقلان عن بعضهما تفاهة وإنكارا للذات ومساسا جارحا بالحب.ذاك هو الجسد بتعريفه الرقمي, وتلك هي الخيانة بتعريفها الأثيري.مالا يدركه سوى الأطباء والمومسات, وإن أنكروه
تمام تلاوي
شاعر سوري

ليست هناك تعليقات: