قصص الكاتبة السورية سوزان خواتمي الجديدة "قبلة خرساء" (منشورات دار قدمس – دمشق)، حكايات ووقائع تشبه شهادات حيّة، يانعة وبالغة الشفافية عن عواطف وتفاصيل عاشتها الكاتبة – الراوية ورأتها بعين المخيلة فأضاءت صورتها الأخرى التي تختفي وتحتاج إلى رؤية الفن. تفارق الكاتبة أجواء قصص مجموعاتها السابقة وتقترب أكثر من ملامسة الروحي في الوقائع والحوادث ملامسة تذهب نحو قراءة الوجد بوصفه علامة وبوصلة تهدي.تكتب سوزان خواتمي قصصها بمخيلة تتكئ على الحياة الواقعية وما فيها من شواهد حيّة ولكن بعد تجريد تلك الوقائع من عاديتها ومن مألوفها الذي لا يستثير المخيلة ولا يلامس الحسّ الأدبي. فكتاباتها تشبه تجوّلا حرّا، هادئا ومفعما بالرغبة في الإستقصاء. استقصاء المشهد، واستقصاء جزئياته، وأيضا استقصاء الشغف بالحياة ذاتها، وخصوصا أن قصصها تنهل من محيط واقعي بات يقارب السوريالية ويحتاج في الضرورة إلى حدقة ترى وتعيد تفسير ما تراه بعيدا من "التفسير" المباشر والتبسيطي، وبلغة تستجيب معالجات أدبية مغايرة."قبلة خرساء" تكاد تكون قصص حياة اجتماعية. تكاد فحسب، لأنها إذ تتجوّل في الوقائع الاجتماعية فإنها تأخذ خطوطها ومساراتها لتطلق من خلالها رؤى مغايرة تحتكم إلى الفردي الذاتي بما هو مخيلة، وبما هو ذاكرة تتأمّل، تحاكم وتسرد ما حدث بطريقتها الخاصة وبكثير من متابعة البسيط ومن ملاحقة العابر الذي نراه غالبا وقد أخذ مكانه في القصة بوصفه أساسيا وله وشائجه المتينة والعميقة. ثمة ملامسة شفّافة لكل ما هو ناتئ، جارح وعميق الأسى. فخواتمي إذ تلامس تلك التخوم من أحزان النساء بالذات فإنما تفعل بكثير من الرقّة ومن الحرص على الارتفاع بالأسى إلى مكانة أعلى لا تستهدف "المحاكمة" قدر استهدافها الكشف بلغة ذات ظلال، لغة تتحد بالمشهد القصصي وتستجيبه."أقلّب أوراقهم مثل شمس تتلصّص"، تعتني بحكاية شبه تقليدية، لكن المفارقة لا تكمن في الحكاية ذاتها بل في المسار الذي تأخذه ويقارب الرؤية أكثر منها وقائع حياتية حقيقية. ثمة موشور بالغ الشفافية للحياة من خلال فتاة ومن خلال الواقع المحيط، الجارح والمفعم بعوامل الذبول والخيبة. موشور نرى خلاله أحزان المرأة وأحزان الرجل: "لم يبق مني سوى بعض الرائحة العالقة على الجدران المتقاربة، المهندس الذي رسم مخطط هذه الدار لا يعرف كم تحتاج الأحلام الى مساحة، وإلا لما تجرّأ على كل هذه المستطيلات التي تشبه بحجمها زنزانات السجون، ولولا النوافذ التي تطل علينا لجاء الاختناق بأسرع مما فعل لاحقا".تقدّم هذه القصّة حالات إنسانية متقابلة يعصف خلالها الأسى بالمرأة كما بالرجل، فيما تقف القسوة على هيئة الوصاية التي تستبدّ بالجميع وتحاول إجبارهم على البقاء في قامة أصغر. هي قصة تلامس رمزية خاصّة أقرب الى الواقعية وتقف على مسافة من الرمزية التقليدية بما هي تجريد. والكاتبة تمنح بعدا آخر للحدث القصصي فتجعله قابلا للوقوف كرمز له ظلاله وأبعاده كما له جماليات حضوره على هذا النحو. هنا يمكن الإشارة الى أجواء القصة ومناخاتها وخصوصا الى السردية العالية السبك والتي تأخذ صيغة تتنقّل بين السردية والوصفية في توازن يمنح الجملة القصصية رشاقة وخفة تعلوان بها الى جماليات وتشويق.ثمّة انتباه خاص الى عوالم الحب "الموؤود" بما هو حيوات يدهمها الموت في منتصفها ويترك ضحاياها يسقطون في النهايات المعتمة للحرمان. سوزان خواتمي تذهب نحو تلك العوالم برشاقة وتتنقل في شعابها برؤى أنثى وحدقتيها المفتوحتين على اتساعهما. في قصة "نعي فاضلة" تأخذنا الكاتبة نحو عالم الموت ولكن هذه المرّة بصورة مقلوبة تجعلنا نتفرّج كيف يمكن الموت أن يكون بداية لحياة أخرى تتأسّس على موت الآخرين. شيء من فانتازيا حزينة، جارحة وواقعية وذات صلة عميقة بالنفس البشرية حين تعصف بها الأهواء والنزوات وتخلخلها الرغبات. قصة عاصفة، مشحونة بالتوتر، تدفعنا الى أسئلة تتناسل وتتركنا في حمّى البحث عن اجاباتها.عالم سوزان خواتمي القصصي في "قبلة خرساء" يتثاقل بين الواقعية بأجوائها ومناخاتها بل ومفرداتها وبين الحلمية بظلالها وتخومها اللامحدودة وضبابية أشيائها، وهو تثاقل تمتزج فيه تجريدية الفكرة بالحدث في حركيته كما بالمخيلة وخطوطها وألوانها. هي توليفة ولكن دون فواصل مرئية أو تخوم ملحوظة. فالقصة دوما تؤلف ذلك كله وتحتويه وتجعله شيئا جديدا مختلفا وذا ملامح مغايرة.أعتقد أن "قبلة خرساء" هي انجاز سوزان خواتمي القصصي الأهم، الأكثر نضجا والأقرب الى ملامسة عالمي القصة والشعر على حد سواء. فهذه الكاتبة الموهوبة التي تكتب الشعر والقصة معا، نجدها هنا تزجّ قصتها في أجواء تقارب الشعر ولكن دون أن تنزلق في ارتكابه داخل القصة، وهي ميزة تحسب للكاتبة وقصصها.كاتبة من جيل القصة السورية الجديدة، الذي ورث سعيد حورانية وزكريا تامر وعبد الله عبد، فاستفاد من عوالمهم ولكنه غادرها على عجل كي يؤسس عالمه الخاص وفضاءاته الخاصة وخصوصا تلك التي تستجيب وقائع الحياة الجديدة وما فيها من شجن وأحزان.
راسم المدهون : ناقد وكاتب سوري
نشرت في جريدة النهار اللبنانية 18/4/ 2008
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق