لم يبالغ تشيخوف عندما قال بأن الحضارة إذا اقتربت من سافلٍ صغيرٍ فسرعان ما يصبح سافلاً كبيراً، فالكتابة كمرتبة من مراتب التحضر الإنساني التي تعقب مرحلتي الكلام واللغة هي مرقى يتسع لكل من يجد في نفسه القدرة على التمثّل من خلالها، ولكنها تبدو اليوم عند أشباه المثقفين المتصدرين لمشهد ثقافي تنهزم فيه القيمة الإبداعية قبالة سطوة الظاهرة الإعلامية بوتيرة متسارعة، عرضة للامتهان وتزوير الحقائق، حيث يمارس بعض المتشبهين بالثقافة تضخيم ذواتهم بشكل يبرز عوراتها عوضاً عن صقلها بجوهر الفن، للقبض على مفاصل المشهد والتحكم فيه.
يمكن تفهم مركبات النقص التي تعتري محرراً ثقافياً حين يبرز نصاً بائساً من نصوصه بشكل لافت من خلال صفحات ملحقه، أو عندما يعلن، نقلاً عن مصادر إعلامية مجهولة، أن إصداراته الأدبية قد تصدرت قائمة المبيعات في معرض الكتاب هذا أو ذاك، أو أن دار نشر عربية مرموقه تفاوضه لإعادة طباعة أعماله، وأخرى عالمية لترجمة آخر إصدارته، ولكن أن تنطلي عليه أوهامه فيرددها ككذبة موسمية في لقاءاته المدبّرة فهذه مسألة محل مجادلتها، أو تشخيصها بمعنى أدق، ليس المنابر الأدبية بل العيادات النفسية المتخصصة.
ولن يكون الأمر مفاجئاً، بل مثيراً للسخرية والشفقة، عندما يدفع كاتب له ملامح وإمكانات التاجر، قيمة طبعات متلاحقة من إصداراته ليرفع من أهمية منتجاته التي يكدسها في مخازنه أو يوزعها كاهداءات بالجملة، أو حتى عندما يستحوذ بثروته على مهرجانات شعرية وملتقيات أدبية بكاملها من أجل استضافته، وإجبار المتلقين على الإصغاء إلى هلوساته، فهذه سخافات يتلبس مقترفوها بالثقافة في كل الأزمنة وفي ظل هوجة إعلامية سرعان ما ينطفئ وهج صاحبها بتدني منسوب الدعم المادي أو بروز تاجر أقدر منه على الدفع وشراء ذمم الطبّالين.
من حق أي كاتب أن يحدث تماسه الواعي مع الظاهرة الإعلامية بحيث يبقي على صلة تداولية تكفل له الحضور وترويج منتجاته، ولكن ليس من الثقافة ولا اللباقة أن يشكل شبكة من المرتزقة والمأجورين مهمتهم تبريز اسمه على الدوام في واجهة المشهد، وتضليل القارئ بنشاطات وحضورات ثقافية لم تحدث إلا في خياله، أو من خلال لقاءات تقدّمه بمعايير نجوم الرياضة والسينما، أو من خلال رفع لافتات حداثة شكلانية وإفتعال معارك هامشية ومجانية مع التيارات الدينية لتمثيل دور الضحية الإجتماعية المنكّل بها.
الانترنت أيضاً منبر عصري مفتوح يحق لأي كاتب أن يحضره ويستثمره وفق قدراته ورغباته، ويحق له بالتأكيد أن ينشر منتجاته في هذا الفضاء التواصلي ليحدث تماسه وتفاعله مع ذوات مهمومة بنفس الهاجس، ولكن من المعيب أن يحف نفسه بجوقة من المراهقات الموهومات والمطبلات لنجوميته، أو أن يتوارى خلف أسماء مستعارة متعددة الأغراض لتعزيم نصوصه بمداخلات مزيفة، أو لإثارة الجدل حولها بشكل غوغائي يكفل له الحضور ولفت الإنظار دون أي رصيد معرفي أو جمالي.
كل تلك مظاهر أو عاهات إنسانية قبل أن تكون ثقافية، تتوفر في المشهد الثقافي بشكل مفضوح، ويعتقد من يمارسها أنه بمأمن عن الإنكشاف، لكن الحقيقة أنها معروفة ومرصودة بعيون قارئ قد ينجح بعض المزورين في استغفاله لفترة ولكن ليس للأبد، فالقارئ دائماً أذكى من أن يغيب وعيه، وأعتقد أنه - أي القارئ - لم ولن يستوعب فكرة حوار مع كاتب نشر منذ مدة في ملحق ثقافي بدون وجود اسم المحاور، فالذي يعنيه هذا التجهيل المتعمّد للوعي القرائي أن الكاتب قد أجرى حواراً ترويجياً متخيلاً مع نفسه، ومررّه على مجموعة من المنابر لنشره، وعندما لم يتقبل أي صحفي إلصاق اسمه بالحوار الترويجي نشره بدون محاور، فيما يبدو حالة من التواطؤ اتفق عليها عدد لا بأس به من المتنفذين ثقافياً.
ولأن إصداره لم يستأثر بأي قراءة نقدية أو حتى إنطباعية، وهو في عجلة من أمر شهرته، وفي أقصى درجات النرجسية والإعتداد بنفسه، صمّم قراءة نقدية منسوجة بتعال معرفي وبحفرية نقدية سابرة لأعماق إصداره، وهي مهمة لا يتقنها ولا يعرف سرها إلا كاتبها، ونشرها باسم ناقد مجهول، لم يكن له أي حضور إلا من خلال هذه القراءة اليتيمة، وهو ما يعني تعميق ذلك التواطؤ واستشراء حالة من النفاق الثقافي التي تؤسس بدورها لبيئة فاسدة ينمو من خلالها ذلك السافل الصغير ليصبح غولاً ثقافياً يتحكم في مفاصل المشهد الثقافي بنفس الآلية، سيراً على هدي أسلافه الذين وهبوا ما لا يملكون من منابر لمن لا يستحق من أشباه المثقفين.
يمكن تفهم مركبات النقص التي تعتري محرراً ثقافياً حين يبرز نصاً بائساً من نصوصه بشكل لافت من خلال صفحات ملحقه، أو عندما يعلن، نقلاً عن مصادر إعلامية مجهولة، أن إصداراته الأدبية قد تصدرت قائمة المبيعات في معرض الكتاب هذا أو ذاك، أو أن دار نشر عربية مرموقه تفاوضه لإعادة طباعة أعماله، وأخرى عالمية لترجمة آخر إصدارته، ولكن أن تنطلي عليه أوهامه فيرددها ككذبة موسمية في لقاءاته المدبّرة فهذه مسألة محل مجادلتها، أو تشخيصها بمعنى أدق، ليس المنابر الأدبية بل العيادات النفسية المتخصصة.
ولن يكون الأمر مفاجئاً، بل مثيراً للسخرية والشفقة، عندما يدفع كاتب له ملامح وإمكانات التاجر، قيمة طبعات متلاحقة من إصداراته ليرفع من أهمية منتجاته التي يكدسها في مخازنه أو يوزعها كاهداءات بالجملة، أو حتى عندما يستحوذ بثروته على مهرجانات شعرية وملتقيات أدبية بكاملها من أجل استضافته، وإجبار المتلقين على الإصغاء إلى هلوساته، فهذه سخافات يتلبس مقترفوها بالثقافة في كل الأزمنة وفي ظل هوجة إعلامية سرعان ما ينطفئ وهج صاحبها بتدني منسوب الدعم المادي أو بروز تاجر أقدر منه على الدفع وشراء ذمم الطبّالين.
من حق أي كاتب أن يحدث تماسه الواعي مع الظاهرة الإعلامية بحيث يبقي على صلة تداولية تكفل له الحضور وترويج منتجاته، ولكن ليس من الثقافة ولا اللباقة أن يشكل شبكة من المرتزقة والمأجورين مهمتهم تبريز اسمه على الدوام في واجهة المشهد، وتضليل القارئ بنشاطات وحضورات ثقافية لم تحدث إلا في خياله، أو من خلال لقاءات تقدّمه بمعايير نجوم الرياضة والسينما، أو من خلال رفع لافتات حداثة شكلانية وإفتعال معارك هامشية ومجانية مع التيارات الدينية لتمثيل دور الضحية الإجتماعية المنكّل بها.
الانترنت أيضاً منبر عصري مفتوح يحق لأي كاتب أن يحضره ويستثمره وفق قدراته ورغباته، ويحق له بالتأكيد أن ينشر منتجاته في هذا الفضاء التواصلي ليحدث تماسه وتفاعله مع ذوات مهمومة بنفس الهاجس، ولكن من المعيب أن يحف نفسه بجوقة من المراهقات الموهومات والمطبلات لنجوميته، أو أن يتوارى خلف أسماء مستعارة متعددة الأغراض لتعزيم نصوصه بمداخلات مزيفة، أو لإثارة الجدل حولها بشكل غوغائي يكفل له الحضور ولفت الإنظار دون أي رصيد معرفي أو جمالي.
كل تلك مظاهر أو عاهات إنسانية قبل أن تكون ثقافية، تتوفر في المشهد الثقافي بشكل مفضوح، ويعتقد من يمارسها أنه بمأمن عن الإنكشاف، لكن الحقيقة أنها معروفة ومرصودة بعيون قارئ قد ينجح بعض المزورين في استغفاله لفترة ولكن ليس للأبد، فالقارئ دائماً أذكى من أن يغيب وعيه، وأعتقد أنه - أي القارئ - لم ولن يستوعب فكرة حوار مع كاتب نشر منذ مدة في ملحق ثقافي بدون وجود اسم المحاور، فالذي يعنيه هذا التجهيل المتعمّد للوعي القرائي أن الكاتب قد أجرى حواراً ترويجياً متخيلاً مع نفسه، ومررّه على مجموعة من المنابر لنشره، وعندما لم يتقبل أي صحفي إلصاق اسمه بالحوار الترويجي نشره بدون محاور، فيما يبدو حالة من التواطؤ اتفق عليها عدد لا بأس به من المتنفذين ثقافياً.
ولأن إصداره لم يستأثر بأي قراءة نقدية أو حتى إنطباعية، وهو في عجلة من أمر شهرته، وفي أقصى درجات النرجسية والإعتداد بنفسه، صمّم قراءة نقدية منسوجة بتعال معرفي وبحفرية نقدية سابرة لأعماق إصداره، وهي مهمة لا يتقنها ولا يعرف سرها إلا كاتبها، ونشرها باسم ناقد مجهول، لم يكن له أي حضور إلا من خلال هذه القراءة اليتيمة، وهو ما يعني تعميق ذلك التواطؤ واستشراء حالة من النفاق الثقافي التي تؤسس بدورها لبيئة فاسدة ينمو من خلالها ذلك السافل الصغير ليصبح غولاً ثقافياً يتحكم في مفاصل المشهد الثقافي بنفس الآلية، سيراً على هدي أسلافه الذين وهبوا ما لا يملكون من منابر لمن لا يستحق من أشباه المثقفين.
محمد العباس ناقد سعودي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق