انتظر غابرييل غارسيا ماركيز الكاتب الكولومبي الحائز على جائزة نوبل 22 عاما قبل أن يسمح بتحويل روايته الساحرة (الحب في زمن الكوليرا) التي صدرت عام 1985 إلى فيلم أخرجه مايكل نيويل ولعب بطولته الممثل الأسباني خافيير بارديم، والممثلة الايطالية جيوفانا ميزغيورنيو، ووضع موسيقاه انتونيو بنتو، أما الأغنيات فكانت بصوت شاكيرا، وكتب السيناريو رونالد هاروود.
الفيلم الذي أنتجته هوليود مؤخراً بميزانية إنتاج قدرها 50 مليون دولار ليجسد واحدة من أعظم قصص الحب تبدأ أحداثه بلحظة وقوع لدكتور خوبينال اوربينو وموته، ولأنه أحد وجهاء المدينة فإن أجراس الكنيسة تقرع لتنتشل العاشق العجوز فلورينتينو اريثا من بين أحضان عشيقته رقم 622، فيهرع إلى تقديم العزاء لحبيبته فيرمينا داثا، معلنا لها أن لحظته معها التي تأجلت51 عاما وتسعة أشهر وأربعة أيام قد حانت الآن. الأرملة المتألمة تصرخ في وجهه وتطرده خارج بيتها، لكن فلورينتينو الذي كان ينتظر بإصرار موت غريمه لن يعرف التراجع.
وهنا تعود بنا الكاميرا لمتابعة الحكاية منذ بدايتها في عام 1879 في مدينة كارتاجينا في كولومبيا، حيث اشتعلت شرارة الحب منذ النظرة الأولى، بين فلورينتينو الصبي الذي يعمل في مكتب التلغراف وبين الشابة الجميلة فيرمينا ابنة تاجر للبغال، تستمر قصة الحب هذه من خلال المراسلات المتبادلة بين الطرفين، فالصبي العاشق الذي يسود الصفحات الواحدة تلو الأخرى ، وتنتابه نوبات الحمى والقيء، فأعراض الحب تتشابه مع أعراض الكوليرا، ذلك الوباء الذي انتشر وقتها ليحصد المئات، لكن الجميلة فيرمينا داثا التي تأبت عن قبول (زهرة العهد البيضاء) تغير رأيها فجأة، وتتخلى عن عاشقها – فما هو إلا شبح- وتذعن لرغبة والدها فتتزوج من طبيب مشهور من الطبقة البرجوازية الراقية، وتتكيف مع وضعها الجديد، ولكن فلورينتينو الذي أقسم على الحب بالشغف نفسه طوال العمر، قرر أن الحب قدره في الحياة، وانه سينتظرها مهما طال الأمد، ومع مرور السنوات يسعى لأن يكون ثرياً كي يليق بمحبوبته حين يموت زوجها وتحين اللحظة الموعودة، وليداوي قلبه المجندل يقيم علاقات غرامية جسدية عديدة مع نساء عابرات في لم تعوض حبه المؤجل، ولكن الرغبة الجسدية رغم استبدادها المؤقت تبقى أسيرة الوله الأزلي الذي تجسده فيرمينا داثا عبر السنين.. ينتصر الفيلم لفكرة الحب وخلودها وترينا اللقطة الأخيرة عاشقين عجوزين تمخر بهما سفينة رفعت علم وباء الكوليرا، لتستمر في ذهابها وإيابها عبر النهر..
إمكانيات الفيلم العالية، وخبرة المخرج مايكل نيويل الذي اخرج من قبل هاري بوتر، أتاحت للكاميرا رصد الفترة الزمنية والمكانية التي يتناولها الفيلم و تستمر عبر نصف قرن، وما رافقها من تغيرات حضارية ودخول عوالم المدينة من شوارع اسفلتية وسيارات وازياء مناسبة إضافة لنهر ماغدالينا المتدفق وجمال طبيعة كولومبيا وكل ماينساب بين اليابسة والماء ..
لكن ماكان مقنعا في الآليات والازياء والمشاهد الخارجية للطبيعة الآخاذة، لم يستمر على نفس مستوى الاتقان بالنسبة للممثلين الذين قدر لهم أن يمثلوا على الشاشة أعمارا تتراوح مابين السبعة عشر ( سن المراهقة) وحتى السبعين( سن الشيخوخة)، خاصة بالنسبة لفيرمينا التي ظهرت وهي في سنواتها الـ 72 وقد اعتلى وجهها بعض الشحوب وغزت التجاعيد البسيطة عينيها الفاتنتين، مع شيب أنيق لشعرها وتسريحة مناسبة، وبقوامها النحيل والمنتصب تتحرك ببطء لا يؤثر كثيراً على روعتها كحبيبة منتظرة، أما فلورينتينو العاشق النحيل فلم تقنعنا تصرفاته بفلسفته عن الحب الأبدي وإخلاص القلب الذي لاعلاقة له بالجسد، إذ بدا في مجونه أقرب إلى الدون جوان، متصيدا النساء.. وحتى في لحظة اللقاء المرتقبة حين ينفردا على سفينة تذهب وتجيء عبر النهر، لم تأت ملامحه بجديد، وهي أكثر مشاهد الفيلم خيبة.
فالبطل – لخلل ما – لم يستطع خلال ساعتين هما مدة الفيلم أن يجسد حركيا وانفعاليا عوارض الحب الأزلي التي عبر عنها ماركيز في روايته، ربما لذلك لم يبخل علينا المخرج بلقطة يقول فيها فلورينتينو أريثا لفيرمينا داثا في لقاء الحب الأول بينهما، بأنه احتفظ لها بعذريته ، فتجيبه: أنت كاذب كبير..
إن المقارنة بين الرواية والفيلم مجحفة حقاً، فما سمحت به إمكانيات العمل الدرامي السينمائي من كاميرات وطاقم إخراج ومونتاج وصوت وموسيقى وأداء الممثلين، اختلف كلياً عما أتاحه الخيال الشخصي ومدارات الكلمة المكتوبة لجابرييل ماركيز..
كما أن متعة قراءة أحداث رواية بكل تفاصيلها الدقيقة بلغة قادرة على اعادة انتاج الروائح
والأحاسيس لاتشبه إطلاقا المتعة الناتجة عن المتابعة البصرية للقطات متتابعة على الشاشة فالمشاهد الذي قرأ قصة الحب الكبيرة، وشُحن بأفكار مسبقة، فوجئ، دون شك، بعمل سينمائي قارب الرواية بخطوطها العريضة فقط، ولم يكن هذا كافيا أو مقنعاً ..! إن رواية ( الحب في زمن الكوليرا) بعوالمها اللامعقولة وفكرتها العاطفية التي تخرج عن المنطق المألوف في الحياة لم تمنح نفسها كاملاً للكاميرا، لذلك ربما كان على ماركيز أن ينتظر 20 عاما إضافية ليسمح بإنتاج فيلمه.
نشرت في جريدة( فنون) الكويتية لعدد اكتوبر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق