14 نوفمبر 2008

رثاء محمد خالد القطمة

خالد قطمة.. من الخطابة والتحريض إلى المشاريع الثقافية الرائدة
د. نزار العاني
من حماة في سورية الى طرابلس وبعد ذلك الى بيروت.رحيل في الامكنة وفي ملفات القضايا الوطنية والعمل الطالبي الحزبي والدعوة المستمرة الى التغيير، تعب وكد في الدراسة والعمل والتطلع الدائب لتحقيق ذات لم تكن بعد تعرف ما تريد.سيرة خالد قطمة لا تروى في صفحة او صفحتين لانها كانت تستحق ان تكون موضوع كتاب يضيف الى المكتبة العربية شيئاً فريداً بمذاق مختلف، وعلى مدى سنوات طويلة كنت احاول اقناعه بضرورة تسجيل يومياته السياسية والثقافية لانها تشكل كنزاً لطلاب المعرفة، خصوصاً ان خالد كان على صلة بالحزب القومي السوري الاجتماعي الذي كان في قلب الواقع العربي الساخن في لبنان وفي سورية.وكنت كلما اقنعته بضرورة البدء بكتابة سيرة حياته، كان يتلكأ، فهو يستمرئ الحديث حول شجون وشؤون الامة اكثر بكثير مما يكتب عنها، وفي مرة من المرات طفح كرمه وقال لي سأبدأ في رواية سيرتي، وانت تتولى مهمات التحرير، وحمزة عليان يتولى التوثيق، وقبلنا، وكدنا نحدد الزمن للاقلاع في هذا العمل، لولا انه رجع الى المربع الاول، اي يدعوني مرتين في الاسبوع على العشاء، ليضع بين يدي ما يفيض عن حاجة ذاكرته.
مشاريع ذات نكهة
ثلاث سنوات لم افارقه لحظة واحدة، فقد عملت معه معاوناً للمدير العام في دار سعاد الصباح العامرة، نبدأ يومنا بفنجان القهوة والسيكارة والتخطيط للعمل، وأول مهمة كلفني بها مراجعة مواد الكتاب التذكاري للشاعر البحريني ابراهيم العريض، ثم توالت المهمات واحدة تلو الاخرى، فلم يكن خالد قطمة يركن الى الراحة، فسعادته الحقيقية في اطلاق المشاريع ذات النكهة غير المألوفة، ولعل العلامة الفارقة في عملي معه هي جوائز الشيخ عبدالله مبارك العلمية، وجوائز الدكتورة سعاد الصباح الادبية، اذ كان يفاجئني دائماً وانا المتخصص بالعلوم بعناوين الجوائز العلمية، فمرة عن التحنيط عن الفراعنة او مرة عن استخدام اشعة الليزر في الجراحات المعقدة، وثالثة عن دور العلماء العرب والمسلمين في بناء الحضارة الانسانية، اما الجوائز الادبية وعناوينها، فلم يكن ذهنه المتوقد ليخونه ابداً في الكشف الفريد والرائد لمواضيع لم تكن في الحسبان.
السياسة والأدب
من ساحات الجامعة الأميركية والخطابة التحريضية ضد المشاريع المعادية للوطن العربي، الى السجون ومخافر التحقيق التي تحاول التفتيش عما في رأسه من مشاريع سياسية خطيرة، الى التلفزيون السوري والعمل الاعلامي الذي لا يبدد كآبات المثقف الحقيقي، الى الكويت وساحتها الصحافية الحافلة بالسجال.خالد قطمة مثل رحالة لا يحب إلفة المكان ويدهشه التجوال في ثنايا العمل اليومي الحار، وبين هذا وذاك له وقفة مع القصيدة، إذ كتب أكثر من ديوان وبعض بديع شعره ينم عن موهبة لايرقي إليها الشك، لكنه لم يكن يؤمن بأن الشعر قضية حياته، لأنه كان في الدرجة الاولى رجلاً حزبياً يعمل بوحي من عقيدة ولذا لم يكن يجد نفسه إلا بكتابة الزاوية السياسية، وقد بدأها في جريدة الانباء، وجمع ما كتبه في كتاب عنوانه «الاسبوع ستة أيام» ولعل اكثر ما كتبه نبلاً وصدقاً في الزوايا خص بها جريدة «النهار» على مدى الأشهر الاولى لصدورها، السياسة عند خالد قطمة أولاً، والأدب ثانياً، وقبل السياسة والادب عشقه الراسخ للمواقف، وله فلسفة في الحياة استقاها من الزعيم أنطون سعادة، مفادها لا عزة في حياة الانسان إن لم يحمل الموقف في عقله وقلبه.
«الرسالة» والأيدي البيضاء
خالد قطمة له فضل لا ينسى على المكتبة العربية حين تبنى مشروع طبع كامل أعداد مجلة «الرسالة» لصاحبها الزيات.وفي يوم من الأيام كلفني باحصاء ما تبقى من اعداد مجلة الرسالة في المستودع الذي خصصته الدكتورة سعاد في الجزء الخلفي لبيتها (القصر الأبيض)، وذهبت وأحصيت العدد، والمجموعة الكاملة من الرسالة تحتاج الى عدّة صناديق، وقلت لخالد يومها سيمر الزمان ولن تنفد هذه الطبعة، كان رأيه هو الصائب، ونفدت طبعة مجلة «الرسالة» وأغبط كل من اشترى المجموعة.
الكتب التذكارية
عشر سنوات وأكثر كنت ألصق الناس به، وأصبح خالد قطمة في رأس قائمة أصدقائي، وصرت أعرفه أكثر مما أعرف نفسي.احد أهم المشاريع التي تبنتها دار سعار الصباح ووقفت الدكتورة وراءها، مشروع الكتاب التذكاري الذي بدأ بعبدالعزيز حسين، ثم ابراهيم العريض وآخرون، ولا أبالغ اذا قلت أن خالد قطمة اذا ما حظي بموافقة وتوجيه الدكتورة سعاد على الشخصية المختارة، كان ينفذ العمل بسرعة قياسية، فهو كقائد أوركسترا يوزع الادوار، ويقترح المواضيع، ويكلف من يصحح ومن يطبع ومن يصمم الغلاف، وكنت أتعلم منه هذه الأمور الاجرائية وأعجز عن فعلها، ولعلي الآن، وأنا أكتب على عجل هذه الوريقات استلهم منه هذه الروح العالية على عدم التباطؤ والرغبة العارمة في انجاز أي عمل بسرعة قياسية.
مزايا إنسانية وشخصية
يا خالد قطمة، بصدق، لقد بكيتك بحرقة، كأنني ولدك، كأنك أخي، بل أهم من الاثنين، فقد كنت صديقي الذي اختزلت به كل صداقاتي على مدى خمسين عاما، عملنا معا، سهرنا كثيرا، لنا مائدة من الثرثرات ممتدة من محمد الماغوط وأدونيس وهشام شرابي وغساني تويني وكل عتاولة الحزب القومي السوري القدامى، وعلى رغم اختلافي معك، اذ لم يحدث أنني انتسبت لحزب وانما رغبت في استقلال الرأي والموقف، لكنني لكثرة ما حدثتني عن رجالات عرفتهم أنت، فكرمى لعينيك أحببتهم ولأجلك، ولنا زاد من الذكريات التي لن تنفد أبدا. والى أن ألحق بك الى الدار الآخرة، عليك ان تمد مائدة كريمة ثرية ومتنوعة مثل التي جلسنا عليها في دنيانا هذه الزائلة، وسأشاركك كل صغيرة وكبيرة كما فعلت خلال السنوات الخمس عشرة المنصرمة، وأعرف أنك ستفسح لي مكانا في المائدة السماوية المنتظرة، فلدينا الكثير الكثير مما لم نقله بعد، الى اللقاء يا صديقي الوفي.

ليست هناك تعليقات: