قراءة في كتاب " لأننا لم نفترق "
يقال إن فان كوغ اكتشف اللون القادر على أن يتحدث عن الألم تحف به ألوان الشمس ..
شدتني قراءة " لأننا لم نفترق " * وقياساً مع الفكرة اعتبرتها صوت يعارض إجحاف الحب ورفض لمجتمع يسامح نزوات الرجل ويتقبلها برحابة صدر ...
هل يقتصر فعل الكتابة هنا على كشف لمعاناة اجتماعية ، أما هي محاولة فطنة لطرح أسئلة وإشراك القارئ في البحث عن علّة الأشياء ؟ ..
" لأننا لم نفترق " كتاب جاء من حيث التبويب مقسم إلى ثلاثة أقسام :
1- لأننا لم نفترق .. ويرد تحت العنوان 26 مقطعاً بعناوين جانبية مختلفة
2- رسائله – النور الخفي
3- رسائلها – زهرة الغضب
ورغم عذوبة الرسائل المتبادلة بين البطل والبطلة في القسمين الثاني والثالث و ما تحويه من فيض مشاعر مرهفة ورؤى فلسفية وأبعاد نفسية ، إلا أني سأقتصر في تعليقي على القسم الأول .
في البدء تعلن الكاتبة ليلى مقدسي **وبوضوح بأن كتابها لا يدخل ضمن مسمى الرواية
" ربما يسامحني القارئ عن كل ما قلته وكل ما كتبته ولا يظن أنه تجديفاً أو غضباً ، كل الظنون ، وكل أقلام النقد التي ستشهر لن تمنعني من البكاء " ص132
" إذن هي تعرية الذات وتصويراً لأدق للمشاعر .. هي الكتابة إليك ومنك " ص11
ومن هذا المنطلق تتسلح الكاتبة بقلمها لتسطر به نزيف روحها ولنكون شهود الحالة .. فنقرأ معها تفاصيل حب نبتت بذرته الأولى من خلال رسائل متبادلة – نجدها في القسمين الثاني والثالث –
تلك الرسائل التي حملت طابعاً فلسفياً ووجدانياً ومصيرياً وبسببها استيقظ الاحساس الغافي من سباته ليتبرعم ذاك الانجذاب ويولد الحب رغم معوقات ظروف البطلة مع وضعها الصحي والبيئي ووضعه المادي والمعنوي وأخيراً اختلاف المذهب الديني بينهما ..
وكادت الحياة تسير بالمركب الزوجي الذي أنتج ابنة وحيدة هادئاً حتى ضفة الأمان لولا شبح المرأة الطرف الثالث والذي تسلل إليهما تحت عباءة الصداقة الفكرية لتتأزم الأمور وتكثر المشاحنات أمام الاقتحام غير المتوقع والذي استمر بطيئاً ومزعجاً .. رغم كل إشارات التحذير والخطر وتأجج النزاعات فقد أدى إلى زواج ثان ..
ليتقلص الحب القديم الأول ويقتصر وجوده المتقزم على لقاء صباحي يبدأ بسؤال
- كيف أنتِ الآن ؟ هل تحتاجين لشيء ؟ ص 103
" نلتقي ... بنمط آخر كأصدقاء مقربين وكأحبة متباعدين " ص127
ذلك اللقاء الصباحي الذي يظهرهما معاً وإقامة بعد الفراق البطل في بيته الثاني
" كأنهما يحرسان ضريح الحب .." ص127
هي أحداث واقعية امتد زمنها كما حددته السطور الأولى من الكتاب منذ 1969 وحتى 1997 وتجدر الإشارة إلى أن الزمن لا يسير بخط مستقيم ، حيث أن الأحداث بدأت من الخاتمة – الانفصال – ومع إمطار الذاكرة تتدفق الوقائع حسب تسلسلها الزمني .
اعتمدت ليلى مقدسي في روايتها على أسلوب الاستفهام بأسئلة كمفتتح تأتي بعد أجزاء منتقاة من فكر البطل وكتاباته فاستطاعت أن تثير فضول القارئ ليبحث بين السطور عن الأجوبة.
وقد جاءت التفاصيل مثل خط واه تسرب إلينا عبر إشارات وجمل محدودة ومتباعدة إذ تركت الكاتبة مساحات بيضاء من الإلغاء بسبب الخجل أو الحرج الغريزي من الإساءة للعائلة كما أوضحت في ص 71
ورغم ذلك فقد استخدمت الكاتبة مجموعة من التقنيات الفنية الواعية
منها الحوار والذي جاء تفسيرياً لحالات الفوضى والتناقض الذي يعيشها البطل المهتم بالثقافة والفلسفة بين ما يؤمن به وما يطبقه على أرض الواقع
وتتساءل الكاتبة
" هل الفلسفة مجرد آراء وأفكار تحليلية أظن أن الفلسفة الحقيقية هي تجربة العيش والثقافة سلوك حضاري ينبع التطور ويضبط بإيقاع الأخلاق " ص 54
لم تستغن الكاتبة في الإسلوب الكتابي عن بوحها الشعري والتي دعوتها شعرية الحزن فهي تقول :
" بقيت الستارة التي تلوح من الماضي ، وفقدت قوة بتر الماضي .. ولم تختصر بهاراتك اللفظية وكل يوم ترش ملح الصبر على أصص وحدتي الجافة ، لتنعش موائد ضجر ، وتطعم أعصابي بنهم الشهوة لحطب ذاكرتنا العتيقة ، فأواصل وداعك لكي يوم إلى الباب وعلى وجهك تمازج ألمي ، لأن ابتسامتي مغمسة بالسواد النقي ، فأغلق الباب دونك ووحدتي تنتفض حولي مذعورة " ص45
" كرهتك بشراسة حبي " ص 109
وقد امتزجت اللغة الشعرية التي تأتي في بعض المقاطع مع اللغة العلمية التي تأتي في مقاطع أخرى حين تحلل أسباب انكسار الحب في شرقنا :
"ربما في الشرق لا نحب ، إنما نعيش حالة حب وهمية بسبب انعدام الوعي العاطفي أو نتيجة حتمية للكبت الجسدي ولمؤثرات التربية الخاطئة والأمراض النفسية الموروثة من البيئة والتي تنمو في تكويننا وتصبح مرضاً مستعصياً يصعب علاجه كذلك مورثات المجتمع ومقياسه على سلم التقاليد وذكورة الرجل الحاكم ...." ص 114
كما استخدمت الكاتبة إضافة إلى المقاطع الفلسفية والشعرية التي هي مقتطفات من أقوال البطل مقاطعاً من الكتاب المقدس وأيضاً أقوالاً وحكماً لمفكرين وفلاسفة أمثال
– فرويد ، أدلر ، يونغ ، سكنر ، ديكارت ، ابن معاذ - مما أضاف قيمة تأكيدية و معرفية داعمة لأفكار الكاتبة .
وقد سعت الكاتبة وبهدوء توضيح وجهة نظر البطل والحديث عن مشاعره المتغيرة وإحساسه بالذنب
" أعرف أنك تتألم لأجلي ، وأحس أنك تتلوى صراخاً ورفضاً غير معلن ورطتك معها أكبر من أن تحتملها وأنت الشارد المعاند بين فكرك وقلبك بين الرافض والمرفوض .. بين الحارق والخروق وتستمع إلى هذياني بصمت صبور ، وأستمع إلى ضجيج صمتك القاتل وأنت تكسر أحاسيسك على صخر لا يرحمني . " ص 110
كما رسمت وبحنق ملامحاً تحدد ولو من بعيد صورة المرأة – الطرف الثالث – :
" هذه الأنثى مسمومة بمفاهيم خاطئة عن التمرد والعبث والتركيز على الأنا الضخمة وإلغاء الآخر مهما كانت مكانته ودرجة قرابته ، وبأصابعها المتطاولة تملك قدرة رهيبة في كسر أقفال تحصينات عائلية واجتماعية ، وترسم كل صور الشر في الأماكن التي تكون أكثر هدوءاً ومحبة وانسجاماً ." ص 84
ولا ننسى أن ليلى مقدسي نجحت في إطلاق صرختها عبر مجموعة من التساؤلات تدين المجتمع الذكوري وتساؤلات أخرى تبحث عن مفهوم الحرية والزواج الذي يخنق الحب ويحوله إلى شفقة وثالثة عن تناقضات الفكر مع الممارسة .. تلك الازدواجية التي يعاني منها جلَّ أفراد مجتمعنا وغالب مثقفينا - وربما هم تحديداً - لأن الصراع مابين الفكرة وتطبيقها يتحول إلى أزمة نفسية يسقطون بين براثنها في أول اختبار .
فهي تقول :
" لماذا يحمي القانون الرجل في حالة فورة الدم ولا يحمي المرأة؟.. هل ليس فيها دمٌ يفور مثله في لحظة الخيانة؟"
يقال ما بين الحب الشديد والكره الشديد شعرة ومن هذا المنطلق نتفهم معاناة البطلة ، ونتفهم أيضاً المعنى الملتبس بين الحضور والغياب عند ليلى مقدسي فالحب مازال أخضراً حين تقول
" أحاول أن أقاوم الدمع كي أعيش فوق درجات الخطر رغم إني أحس الآن أن الواحد يعيش مع الآخر رغم انفصالنا " ص 81
ومن هنا جاء عنوان الكتاب " لأننا لم نفترق " ..
ومع خاتمة الحروف المنكسرة تمكنت الشاعرة والكاتبة ليلى مقدسي وبطريقة ذكية لا تخلو من الوعي الاستئثار باهتمامنا ومن ثم تعاطفنا من خلال هذه الرواية والتي " كما عرفت " سيظهر لها جزء ثان قريباً ...
* " لأننا لم نلتقي " رواية صادرة عام 2003عن دار المقدسي للطباعة والنشر والتوزيع 271 صفحة من القطع المتوسط .
** ليلى مقدسي شاعرة من سوريا صدر لها أكثر من مجموعة شعرية : ثالوث الحب - غمامة ورد - وردة أخيرة للعشق - عرس قانا - نص القلب - لغة الجمر .
سوزان خواتمي